أصبحت الدولة القُطرية داخل حدودها الجغرافية تواجه انحسارا في قدرتها على المحافظة على سيادتها واستقلالية قرارها، وتحقيق طموحاتها في التنمية والرخاء، في عصر العولمة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والمعلوماتية، كما تقلص دورها أمام تزايد قوة ونفوذ الشركات العملاقة متعددة الجنسيات والمؤسسات الدولية، كمنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، ووكالات الأمم المتحدة المختلفة، بالإضافة إلى قوة الفضاءات والتكتلات السياسية والاقتصادية، مثل الاتحاد الأوروبي والآسيان في جنوب شرق آسيا.

ومن هذا المنطلق، فإنه لا مستقبل لكثير من الدول الصغيرة، إلا من خلال بناء كتل سياسية واقتصادية تملك خصائص جغرافية وتاريخية وثقافية مشتركة. وقد برزت على المستوى العربي تجربتا مجلس التعاون الخليجي الذي تأسس عام 1981، ويمر حاليا بتحديات سياسية تهدد مستقبله بالكامل، واتحاد المغرب العربي الذي أسسته ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، في مدينة مراكش المغربية في 17 شباط/ فبراير عام 1989، ولا زال ينتظر التفعيل الحقيقي له كجسم سياسي واقتصادي يمتلك مقومات ومكامن قوة كبيرة.

وتملك الدول المغاربية الخمس، من ليبيا إلى موريتانيا، امتدادا جغرافيا طبيعيا وحدودا مشتركة برية وبحرية تساعد على انسياب وتنقل البشر والبضائع بكل سهولة، وتبلغ مساحتها الكلية قرابة ستة آلاف كيلومتر مربع، وهو ما يعادل 42 في المئة من مساحة العالم العربي، كما يبلغ طول الشريط الساحلي لها مجتمعة حوالي 6500 كلم على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. ويصل عدد سكانها حوالي 100 مليون نسمة تقريبا، ووصل إجمالي الناتج المحلي لها مجتمعة إلى نحو 400 مليار دولار أمريكي في 2017، وهو ما يعادل حوالي 32 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للعالم العربي.

كما تملك دول الاتحاد المغاربي ثروات طبيعية هائلة، حيث لدى ليبيا أكبر احتياطي نفط في أفريقيا، وخامس أكبر احتياطي نفط صخري في العالم، إلى جانب العديد من المعادن، ومنها الذهب الذي لم يتم تطويره اقتصاديا بعد. كما تملك الجزائر احتياطيات ضخمة من الغاز والنفط، وتصدر موريتانيا والمغرب وتونس العديد من المعادن، مثل الفوسفات والحديد الخام، وكذلك التمور والمنتجات الزراعية الأخرى. وبينما تملك ليبيا والجزائر ثروات طبيعية كبيرة، يملك المغرب وتونس كذلك ثروات بشرية هامة من العمالة الحرفية المدربة، مما يحقق لدول الاتحاد تكاملا اقتصاديا واكتفاء ذاتيا، ويجعل منها كتلة اقتصادية قوية في مواجهة ومنافسة تكتلات أخرى، والتفاوض معها من مركز قوة، ومنها كتلة الاتحاد الأوروبي القريبة جغرافيا.

وتواجه ليبيا كأحد أعضاء اتحاد المغرب العربي، اليوم تحديات كبيرة وهي تتلمس طريقها إلى التشكل وإعادة البناء على مرتكزات سياسية جديدة منذ ثورة فبراير 2011، حيث تعاني طيلة السبع سنوات الأخيرة ما بعد الثورة من هشاشة الدولة وضعف مؤسساتها، ومن انقسام سياسي واستقطابات حادة، وصراع عميق وصل إلى حد الاحتراب والاقتتال بين أبناء الشعب الواحد. كما فقدت ليبيا السيطرة على حدودها البرية الشاسعة بطول 4500 كيلومتر مع ست دول مجاورة، وساحل طويل على البحر المتوسط بطول ألفي كيلومتر.

كما أصبحت ليبيا مسرحا لتدخلات عربية وأجنبية تغذي الصراع؛ من خلال تقديم جميع أنواع الدعم السياسي والعسكري والإعلامي لأطراف ليبية ضد أخرى. وبينما نجد أطرافا عربية، مثل دولة الإمارات وغيرها، متورطة في تعميق الصراع داخل ليبيا، نلاحظ في المقابل أن جميع بقية دول اتحاد المغرب العربي قد نأت بنفسها عن أن تتدخل سلبيا لدعم طرف ليبي ضد آخر، سياسيا أو عسكريا، بل أتت مواقفها في الإطار الإيجابي، حيث تبذل جهودا كبيرة من أجل تقريب وجهات النظر، وحث الأطراف المتصارعة على الحوار والتوافق على المصالحة والحل السلمي. وشمل ذلك مبادرات وجهودا مشتركة من قبل تونس والجزائر، وكذلك جهودا مغربية.

إن حرص الدول المغاربية على وحدة ليبيا واستقرارها وإنهاء الصراع فيها، يؤكد أن الفضاء المغاربي هو الفضاء الطبيعي الأول والأقرب الذي يجب أن تراهن عليه ليبيا في ضمان استقرارها واحترام سيادتها، كما لا يمكن لليبيا التي تملك كثافة سكانية صغيرة في دولة مترامية الأطراف، وتمثل ثالث أكبر مساحة في أفريقيا، أن تواجه تحديات محاربة جماعات الإرهاب والهجرة والتهريب والجريمة المنظمة عبر الحدود، إلا من خلال تعاون وتنسيق واستراتيجيات اقليمية مشتركة مع دول اتحاد المغرب العربي أولا، ولا سيما أن هذه الجماعات تتواجد وتنشط في مجال جغرافي إقليمي واسع، يتجاوز دولة قطرية بعينها.

إن الشعوب المغاربية لا زالت تعلق آمالا واسعة على تفعيل الاتحاد المغاربي سياسيا واقتصاديا على أرض الواقع، لما سيجلبه ذلك من دفعة قوية لقرابة مئة مليون مواطن مغاربي على طريق الاستقرار والتنمية والنهوض. ولا زال الأمل يحدو الكثيرين في أن تتجاوز بعض الأنظمة (وليس الشعوب)، كالجزائر والمغرب، الخلافات بينها، لا سيما أن حل مشاكل الصحراء والحدود أو غيرها ليس بالأمر المستحيل بين أشقاء جيران يجمعهم عمق تاريخي وانتماء ديني وعرقي وثقافي واحد، فها هي ألمانيا وفرنسا اللتان كانتا من ألد الأعداء قبل سبعين عاما، أصبحتا أقوى الحلفاء خلال عقود قليلة بعد تلك الفترة.

و كما ظهرت فكرة الاتحاد المغاربي في بدايتها من خلال مبادرة لثلاثة أحزاب في مؤتمر لهما بمدينة طنجة المغربية في 30 نيسان/ أبريل 1958، وهي حزب الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الجزائرية والحزب الدستوري التونسي، فإن على الأحزاب السياسية في الدول الخمس، ومؤسسات المجتمع المدني وكل القوى الشبابية والثقافية اليوم، أن تعمل بتنسيق وفاعلية على الضغط من القاعدة الشعبية إلى أعلى الهرم السياسي، من أجل تحويل حلم اتحاد مغاربي قوي إلى حقيقة وواقع.

إن هذا الاتحاد أصبح خيارا استراتيجيا ضروريا، من أجل البقاء والمنافسة في عالم اليوم، بتحالفاته السياسية وتكتلاته الاقتصادية القوية، وليبيا لن تنعم بالاستقرار والمحافظة على وحدتها وسيادتها وثرواتها إلا من خلال التحصين والاستقواء بأشقائها داخل هذا الفضاء المغاربي؛ الذي أظهرت دوله حرصها على وحدة ليبيا واستقرارها وسلمها الاجتماعي، بينما تعاملت دول عربية أخرى قريبة وبعيدة مع ليبيا بسياسة تغذية الصراع، والتدخل من أجل الهيمنة السياسية، والتمكن من ثرواتها الاقتصادية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *